mardi 24 décembre 2013

قراءة في سياسة نابيون "الإسلامية" في اطار الحملة الفرنسية على مصر

.
كتبها : زكرياء الزوادي




 مخطئ من يعتقد ان الحملة الفرنسية على مصر حملة صليبية أو استعمارا كلاسيكيا بل انه في تصورنا جاء نتيجة صدى الثورة الفرنسية  في العالم لما حققته من تغير شمولي في بنية التفكير العلمي  و النظم السياسية    استنادا لأفكار  النهضة   والأنوار مع تمييزنا للفرق بين النظرية و التطبيق فبرزت سياسة  المد الثوري مرفوقة بشعار الحرية والمساواة والعدالة  واستجابة للدراسات الاستشراقيية  التي ابتدأت عام 1312 في المجامع الكنسية   في فيينا وعرفت تطورا ملحوظا في القرن18 واتخذت أشكالا متعددة أثناء القرن 19 والقرن 20 
نقرا لادوارد سعيد  في الاستشراق ** ان احتلال نابليون لمصر ادى الى تحريك عمليات بين الشرق والغرب ما تزال تسيطر على منظومتنا الثقافية الى اليوم** [1]  وقدمت الحملة  بالمجهود الجماعي موسوعة وصف مصر  فكيف تمثلت سياسات نابليون بمصر .
السياسة "الإسلامية"  لبونبارت
مذ أن كان بونابارت لا يزال على متن  السفينة  اوريان()[2]  كتب منشورا باللغة الفرنسية موجها إلى الشعب المصري  شرح فيه الخطوط الرئيسة لسياسته بمصر و قام المستشرقون بترجمتها الى العربية  وان كانت الترجمة بأسلوب ركيك  وأضيفت اليها بتوجيه من بونابارت عبارات لم ترد في النص الأصلي  وكان قد احضر مطبعة مزودة بالحروف الفرنسية واليونانية و العربية  ولما نزلت الحملة  بالإسكندرية وزع المنشور وأرسلت نسخ منه إلى القاهرة     و نلاحظ من بداية المنشور حرصا على عدم التلميح لاي جملة تشير إلى ارتباط الحملة  بالمسيحية او الصليب  او ما كان متداولا في العصر الوسيط  لا
    ونعتبر دلك نوعا من اساليب الدعاية او البروباغندا الممنهجة من خلال الحرص على التقرب من الأهالي و عدم إثارة الرعب في نفوسهم في بداية المنثور   نستشف ذللك من خلال  افتتاحية المنشور بالبسملة **بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية **[3]  وتبرير الحملة بهدف القضاء على المماليك المتسلطين  وكفهم عن أذية التجار الفرنسيين و تضمنت بعض الرسائل التهديدية في مواد المنشور  كالمادة الثانية - كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار‏.
 
أدرك نابليون مبكرا ان حملته على مصر هي تجربة جديدة في حكم شعب شرقي فاتجهت سياسته إلى الأزهر إذ ذكر في مذكراته أن الأزهر يقابل السوربون في باريس  وانه اشهر  جامعة في الشرق وكان أول من أطلق عليهم اسم دكاترة الشريعة                                                              
Les docteures  de la loi   
اضافة الى كونهم زعماء الشعب المصري في النصف الثاني من القرن 18 على وجه خاص فكانوا كثر العناصر نفوذا وهيبة  لذا سنجد المؤرخون الاوروبيون يطلقون على سياسة بونابرت مصطلح  سياسة بونابرت الإسلامية  [4]
La politique musulmane de bonaparte
و قامت هذه السياسة على اضهار الاحترام العميق للدين الاسلامي  والتقاليد الدينية وإسهام الجيش رسميا في الاحتفالات بالأعياد  الدينية وغيرها و التقرب من فقهاء الأزهر و اعطائهم مزيدا من النفوذ  تحت اشراف الفرنسيين. وكان جوهر هذه السياسة الاسلامية لبونبارت يتجلى كما يذكر هنري لورانس في محاولة  "دمج الخطاب الثوري الفرنسي بالرطانة السياسية الاسلامية المصرية ... فإما الرحيل او التوافق مع الافكار الدينية , الافلات من لعنات النبي و عدم السماح للذات(الفرنسية ) بالاندراج في صفوف اعداء الاسلام " [5]
 تجلت عمليا    من خلال  انشاء ديوان لحكم القاهرة يكون مقره الأزهر خصص لهم حراس على ابواب الديوان و تخصيص اجرة لهم و بعض الامتيازات الأخرى يتكون الديوان من 9 اعضاء في البداية له حق تعيين اثنين من الأغاوات \ رؤساء الجند\\ بالإضافة  إلى إلاشراف على لجنة مراقبة الأسواق و لجنة للإشراف على دفن الأموات
بالإضافة الى   * النظر فى المصالح والشكاوى الخاصة بالأهالى 
منع المشاحنات والخصومات بين القرى *
جباية الأموال والضرائب من الأهالي .* 
و* تدريب الأعيان المصريين على نظام مجالس الشورى فيما يعود بالفائدة على الأهالى في مجالات القضاء والمواريث والملكية العقارية والضرائب ، وأول من تولى رئاسة هذا الديوان الشيخ عبد الله الشرقاوى.
 هذا الخير ذو الاصل البدوي  يعد مكسبا مهما للادارة الفرنسية   اذ بفضل انتمائه لمؤسسة الازهر   حقق الشيخ عبد الله الشرقاوي صعودا وظيفيا هاما داخل المجتمع المصري  استغلها لزيادة ثروته من خلال  تصديه للمماليك كونه من اسرة فلاحين  , اضافة الى قيامه بدور الوسيط بين الاهالي و السلطات الفرنسية  فضلا عن ما كان يقوم به من خدمات الابلاغ عن أي تحركات مضادة للفرنسيين [6]    
لكن ما مدى نجاعة هذه السياسة ؟
للوهلة الاولى  يلاحظ المتتبع  جرأة  مهمة  لهذه السياسة كونها حاولت استقطاب النخبة المصرية المتعلمة  ومحاولة استخدامها لصالحها في اطار حكومة الديوان  وفي اطار شمولي يتسم  بخطاب المهمة الحضارية  الذي حاول  مراعاة خصوصية الشرق الثقافية من خلال   دمج الخطاب الثوري الفرنسي بالرطانة السياسية الاسلامية المصرية  كما سبق .  ولكن واقع المتغير الاني للمرحلة المتمثل في هزيمة ابي قير البحرية  3 غشت 1798 التي  انتهت   بخسارة فرنسا فيها امام الاسطول الانجليزي  , هذا الاخير الذي قام بمحاصرة الشواطئ المصرية , و هذا يعني بصورة مباشرة خنق تجارة مصر في المتوسط و البحر الاحمر  و يعني كذلك انقطاع الموارد الاولية لتجهيز الجيش الفرنسي الذي يستعد للحملة الشام .
لتفادي هذ الحصار الاقتصادي نهجت فرنسا سياسة جبائية داخلية    كان من الاسباب  في تقويض نجاعة "السياسة الاسلامية "   لنابيون  حيث شملت "الاملاك على اختلافها الحمامات الخانات و الحوانيت المقاهي طواحين الغلال المعاصر البيوت الغرف ..."[7]
من جهة اخرى ساهمت دعوة السلطان العثماني سليم الثالث في اطار التحالف الانجليزي العثماني  للجهاد ضد فرنسا من خلال منشوراتها في نشوب ثورة اكتوبر 1798 في القهرة فكانت بداية التحول في سياسة نابليون التي ستتخذ طابع العنف   لقمع هذه الثورة حتى وان تطلب الامر تحويل المساجد الى قلاع و هدم البعض الاخر .











[1] سعيد (ادوارد) الاستشراق المعرفة السلطة الإنشاء.  ترجمة كمال أبو ديب مؤسسة الابحاث العربية الطبعة السابعة 2005  ص73
[2] بل هناك من ذهب الى ان بونابارت طلب من جنوده دراسة القران الكريم قبل مغادرة فرنسا راجع لزاماCh. CHERIFS, Bonaparte et l’Islam d’après les documents français et arabes, A. Pedone
éditeur, Paris 1914, p.12
عن بحث التخرج ل كمال حسنة العلاقات الفرنسية العثمانية  في عهد سليم الثالث  ص 177 اشراف الدكتورة عائشة غطاس .جامعة الجزائر كلية العلوم الانسانية و الاجتماعية 2005 -2006 بحث غير منشور  
[3]  الجبرتي( عبد الرحمان) . عجائب الآثار في التراجم و الأخبار. ج3 ص4  تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمان عبد الرحيم . مطبعة دار الكتب المصرية . 1998

[4]   الشناوي(عبد العزيز محمد) . صور من دور الأزهر في مقاومة الاحتلال الفرنسي اواخر القرن الثامن عشر    ص 5  
مطبعة دار الكتاب 1971

[5] لورانس (هنري)  .الحملة الفرنسية في مصر بونبارت و الاسلام . ترجمة بشير السباعي الطبعة الاولى 1995 سينا للنشر ص 154

[6] انضر لورانس (هنري)  .الحملة الفرنسية في مصر بونبارت و الاسلام . ترجمة بشير السباعي الطبعة الاولى 1995 سينا للنشر ص 262-263    
[7] شبارو  (عصام). المقاومة الشعبية المصرية للاحتلال الفرنسي و الغزو البريطاني . دار التضامن للنشر  بيروت 1992 بدون رقم الطبعة  ص50-51 

vendredi 27 septembre 2013

تاريخ المغرب منذ الاستقلال لبيير فيرمورين


كتبها : زكرياء الزوادي





  هذا البحث هو  محاولة متواضعة تشمل قراءة مفصلة   للفصل  المعنون بمحمد الخامس و حزب الاستقلال      من كتاب             
تاريخ المغرب منذ الاستقلال لبيير فيرمورين  
          
           تتبلور الفكرة المركزية في هذا الجزء من كتاب تاريخ المغرب منذ الاستقلال لبيير فيرمورين  و  المعنون بمحمد الخامس و حزب الاستقلال و المؤطر بالمجال الزمني  من 2 ماي 1956 تاريخ الاستقلال الرسمي  الى فبراير  1961 تاريخ وفاة محمد الخامس .
يعالج فيها اشكلات مغرب ما بعد الاستقلال  وصراعات  القصر و حزب الاستقلال  حول السلطة  و الرؤية السياسية لكل منهما لمغرب ما بعد الاستقلال .
ما ان اعلن  الاستقلال  البلاد حتى وجد محمد الخامس  نفسه   في مواجهة حزب الاستقلال االقوي الذي ربط  وجوده بالاستقلال  كما تبين المادة  الثانية من القانون المنضم لحزب الاستقلال  لسنة 1946 التي تنص  على تحقيق  استقلال البلاد و وحدتها [1]
 و الذي كان بعض زعمائه  يجتذبهم نموذج الحزب الوحيد  على شاكلة نضام بورقيبة  في تونس .
لا ننسى كذلك السياق العام للمنطقة و المتوجه نحو القضاء على  الملكيات بدءا من النموذج المصري  1952 مع ثورة الضباط الاحرار  بقيادة نجيب و جمال عبد الناصر  و نفي الملك المصري  فاروق  . لا ننسى كذلك ان علال الفاسي  كان مقيما بالقاهرة  و متابعا للأحداث  و ان كان له رأي  معارض  في تدخل الجيش  في السلطة  كما صرح لصحيفة روزا ليوسف  .[2] اضافة الى ما حدث في تونس سنة 1957 الممثل  بإلغاء النظام الملكي و خلع الملك  محمد الامين الباي و اعلان الجمهورية . و يؤثر ان علال كان معجبا بالتجربة  التونسية مع بورقيبة  الذي جمع بين يديه  دفعة واحدة  سلطات الباي و المقيم العام دفعة واحدة  و يؤثر انه قال لبعض المسؤولين في الحزب اعاهدكم على اننا  لن نترك لمحمد الخامس سوى مهمة  تدشين المساجد وحتى المساجد سنعمل على تسيسها [3]
حيث كان يسعى الى ملكية على النمط  الانجليزي  لذلك فمشروع حزب الاستقلال  او بالأحرى مشروع حزب الاستقلال  لمغرب ما بعد  الاستقلال  كما بينه بير فيرمورين في كتابه تاريخ المغرب منذ الاستقلال  انه حاول استنهاض  البلاد باسمه  بهدف حصر السلطان  في  الوظيفة التشريفية  و "الانفراد بالسلطة بمعزل عن المخزن   و جيش الاستعمار  و اعداء الحزب  "[4]  
 
سيما و ان  للحزب قاعدة جماهيرية قوية  في جميع انحاء البلاد  فالحزب يضم حوالي حوالي مليون منخرط  [5]  بجانب احتواء الحزب على   جهاز نقابي  قوي  ممثلا في الاتحاد المغربي للشغل .
سيبدأ تغلل الحزب  في دواليب  الحكم  والسلطة  في سياق دولي  اعاد اساليب  الاستعمار القديمة  ممثلة في حرب السويس  1956  و حادث اختطاف الطائرة  التي كانت تقل بن بلة و  رفاقه حيث كانت ستتوجه الى تونس   في نفس السنة .  ففي هذه الظروف صار الحزب يستأثر  ب10 حقائب من جملة 16 حقيبة [6] في حكومة البكاي الثانية  بعد ان كان الحزب سوى 9 وزراء  في حكومة البكاي الاولى [7]
                                                                                                             بجانب  مناصب في السلطة التنفيذية  و الشرطة  و لعل هذه المرحلة  كرست تصرف  الحزب الساعي  لتفرد بالسلطة  بواسطة الاغتيالات  و اقامة  المعتقلات السرية  و  القمع و السجون السرية لمناضلي الاحزاب الاخرى و التي كان في مقدمتها حزب الشورى و الاستقلال  و بين ايدينا  رسالة موثقة  من الامير عبد الكريم الخطابي  الى زعيم الشورى و الاستقلال  يخبره فيها بقوله هل هذه حكومة ام عصابة  مسندة بقائمة  بأسماء هذه المعتقلات  و عناوينها .[8]


                                                                                              







فماذا  كان موقف  القصر من كل هذا ؟
القصر الذي يريد بدوره الاستئثار بالسلطة  رأى فيما كان ينهجه حزب الاستقلال  من سياسات التصفية  يصب في صالحه حيث كانت تخدم مصالح القصر بطريقة غير مباشرة ان صح التعبير  خاصة و ان القصر كما يرى المؤلف  كان يعرف تمردا من قبل ما يسميه  ببلاد السيبة  و الذي يريد ان يخمد هذه الثورات التي كانت مشتعلة قبل الحماية . لكن الواقع ان الثورات التي حدثت في سياق الرد على سياسة الحزب في التفرد  بالسلطة نقصد بذلك ثورة عامل تافيلالت عدي اوبه   مستغلا   زيارة  الملك محمد الخامس   بزيارة إلى إيطاليا   يناير  1957  
هذا الاخير الذي ذاق ذرعا بتصرفات حزب الاستقلال الممثلة في زرع اعضاء الحزب في مجموع مؤسسات الدولة حتى و ان غاب عنها شرط الكفاءة و الخبرة و يستشف ذلك من تصريحه للصحافة الفرنسية * انه لا يريد الخضوع الى نفوذ حزب الاستقلال الذي يستولي على الحكومة  و يرسل الينا موضفين و قضاة قليلي الثقافة و غير اكفاء *[9] 
او ثورة الريف التي جاءت في سياق تضعضعت فيه  الاوضاع الاقتصادية و التهميش الذي تعرضت له الشمال عموما .
و كخطوة استباقية  كان رد الفعل  بتأسيس مجلس للعرش  و وصاية القصر على الشرطة  و الجيش  بأطر ذوي تكوين فرنسي    يضاف الى ذلك تحالف  الاثرياء  مع القصر اللذين راكموا ثروات  في فترة الاستعمار .
 في المقابل برزت حركة التصعيد  و رفع سقف المطالب  من داخل الحزب المميزة بطابعها الردكالي  منها ما يتعلق بالإصلاح الفلاحي  و جلاء الجيش  الاجنبي  و اعادة توزيع الثروة من جهة و اخرى بطرق عملية  تجسدت في التعبئة التي قادتها الحركة الرديكالية من داخل الحزب بقيادة بن بركة للشباب المغربي المتحمس  لبناء  طريق الوحدة 1957 .
في خضم هذه التطورات برزت عملية الممسحة سنة 1958 المشتركة بين الجيش الاسباني و الفرنسي للقضاء على جيش التحرير  و التي كانت من مقررات مفاوضات ايكس ليبان  ووصفها الكاتب  بمثابة القضاء على الجهاز العسكري لحزب الاستقلال [10]  
 و التي تزامنت كذلك مع قيام دولة موريتانيا  بمعنى اخر كانت ضربة مزدوجة  حيث ان الحزب كان له تصور  عميق لخارطة المغرب
و لعل ذلك صب في مصلحة  القصر الذي كان يرى فيها تهديدا قويا عليه   . سيعمل القصر بعد ذلك من الاستفادة من الخلافات داخل الحزب  و استقطاب الجناح المحافظ  داخل  الحزب هو ما تم سنة 1958 مع حكومة بلا فريج  بينما نزع اليسار داخل  الحزب  في التوجه نحو الانفصال  في ضل اجواء مشحونة بالثورة العصيان  بالمغرب المديني  مع شخصيتي احرضان و الخطيب  في هذا السياق  عاد القصر الى احتواء اليسار داخل الحزب  بمنحه رئاسة الحكومة في دجنبر 1958 اي قبل شهر من ميلاد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تاسس في 25  دجنبر 1959 فالى اي مدى تخلى القصر عن سلطاته لصالح  هذه الحكومة ؟
يبدو من خلال تقسيم المناصب داخل الحكومة غياب كلي  لمبدأ فصل فصل السلط حيث وضع القصر يده على القطاعات الامنية و الداخلية و الدفاع بينما اوكلت للحكومة مسؤوليات اقتصادية  و اجتماعية  و لعل ذلك اساء الى الحكومة خاصة و فقدان الحكومة للقرار الامني  و الدفاعي الذي استخدمه القصر  في قمع الانتفاضات المشروعة بطرق دموية في الريف تحديدا و الذي حدد الكاتب عدد ضحاياها ب 6000 الى 8000 قتيل
يضاف الى ذلك ضاهرة تفريخ الاحزاب باعلان عن حزب الحركة الشعبية الذي تزامن مع سنة بروز حزب القوات الشعبية اي في سنة 1959
ولعل مبدأ فصل السلط قد اعاق بشكل كبير عمل حكومة ابراهيم  فالمخططات الخماسية على النهج الاشتراكي التي طرحتها حكومة ابراهيم  1960-1964 واجهت عرقلة القصر الذي احجم عن الختم  عرقل ذلك مغادرة رؤوس الاموال من المغرب  الذي يعني اغلاق المصانع و الذي يعني اعلان الازمة  لكن و بالرغم من العراقيل التي واجهتها الحكومة الا انها قامت بسك العملة و  تأميم بنك الدولة  و العمل على جذب المشاريع الضخمة  كمركب لاسمير لتكرير النفط بالمحمدية    و استرجاع ألاف الهكتارات من الاراضي الزراعية في الميدان الفلاحي  الذي ما ان تم حتى برزت كارثة زلزال اكادير 1960 لتزيد من تازم الوضع .
 ولعل هذه السياسة الاصلاحية الاقتصادية التي قادتها حكومة ابراهيم قوبلت باستياء شديد من القصر جعل ولي العهد انذاك يفكر باسقا طها  حيث تم اعلان ما سمي بمؤامرة لاغتيال ولي العهد  و وجه الاتهام للفقيه البصري  و اليوسفي  وإدارة الحزب ترتب عنها حل الحكومة ماي 1960
 و بذلك استطاع القصر  كسر هيبة الحزب الوحيد  و كان بمثابة تمهيد ايجابي لحكم الملك الجديد  الذي اولى اهتماما  بإعادة التوازن الخارجي بعدما تربع على سلطات واسعة  في الداخل  بما يخدم مصالح المعسكر الغربي و انتهاء مرحلة ثورة الملك و الشعب كما  سماها الكاتب.





[1]  الزهيري قاسم  ازمة بعد اخرى . الطبعة الاولى 2000م الدار البيضاء ص12 
[2] الكنبوري ادريس .الملف الاسبوعي  علال الفاسي ماذا بقي منه . صحيفة المساء عدد 677/يوم 22/11/2008
[3] نفسه
[4] فيرمورين بيير  تاريخ المغرب منذ الاستقلال ص 42                                                    
[5] نفسه
[6] نفسه
[7] قاسم الزهيري ازمة بعد اخرى ص 39
[8] المهدي التجكماني  . دار بريشة .
[9] جبرو عبد اللطيف . عدي اوبهي حكاية  عصيان تافيلالت ص 40 بدون رقم و تاريخ الطبعة
[10] تاريخ المغرب منذ الاستقلال ص 49 

mardi 5 mars 2013

النفوذ الإيراني في أفريقيا


كتبها : زكرياء الزوادي



منذ تنصيب الرئيس احمدي نجاد قال في احد الخطابات بنيويورك 2007    لا حدود لتوسيع علاقاتنا مع دول أفريقيا  ومند تنصيبه وإيران تنشط بقوة في تعميق اللاحدود في العلاقات مع أفريقيا  فما هي الأسباب الداعية لذلك وما هي الأسس  التي تتموضع حولها  السياسة الإيرانية في إفريقيا
إفريقيا هدف مهم في السياسة الخارجية لاحمدي نجاد  تدل عليها الزيارات التاريخية باعتبارها سابقة عهدها لعدد من كبار المسؤولين في الهرم السياسي الإيراني بمن فيهم المرشد الأعلى و الرئيس نفسه  حيث صرحو في 2009 انهم مستعدون لمساعدة البلدان الإفريقية والاتحاد في مواجهة ما اسموه بالاضطهاد الغربي  وتعددت الصور التي تعطي  فيها إيران صورة المساعد الاقتصادي المتطلع إلى دور اكبر مستقبلا في علاقاتها الإفريقية .
ايران تهتم بالخصوص بدول وسط إفريقيا خاصة دول القرن الإفريقي التي تعتبر ضمن المخطط الاستراتيحي الشمولي لإيران يطمح الى نشاط سياسي واقتصادي وعسكري  من خلال
1 خلق نفوذ سياسي بالمنطقة
2 تحسين العلاقات الاقتصادية   حيث دعا  نائب وزير الخارجية للشؤون الإفريقية  محمد رضا باقري   القطاع الخاص إلى تكثيف نشاطها  بإفريقيا وعقب وزير الخارجية منوشهر  متكي \ان  الجمهورية الإسلامية الإيرانية بتكنولوجيتها وتجاربها إلى جانب الثروة الطاقية والمنجمية  بإمكانها خدمة مصالح الطرفين  \
3 سياسة المد الثوري الثورة الإيرانية  أو مايسميه احمدي بالمهمة الثورية العالمية  اذ عبر في خطابه الذي لبقاه بمدينة مشهد غشت 2009 ما نصه \ ان هذا العهد هو عهد بروز الامام المهدي … وعلى جهودنا ان تتكاتف من اجل بناء ايران وابلاغ رسالتنا الثورية الى العالم كله \
global revolutionary mission
4 التواجد الإيراني بالبر والبحر والممرات البحرية الحيوية
5   الاستفادة من الترسانة العسكرية لتحقيق نفوذ سياسي و اقتصادي وإقامة شراكات مع دول إفريقيا في مجال الزراعة و بناء السدود  و محاولة التزويد بالسلاح في مناطق التوتر كالسودان وغزة  واستطاعت  تعزيز  علاقات مع اليمن من خلال  رسو البوارج الحربية في ميناء  عدن  لحماية سفنها من القرصنة  .
و سنركز في هذا المبحث على المد الأيديولوجي الإيراني لأفريقيا و المتمثل في فكرة التشيع و خلق نخبة فكرية بمرجعية شيعية تستطيع من خلالها كسب الكثير في المستقبل على غرار ما كانت تفعله فرنسا من  خلال علاقة الأبوة  بينها و النخبة الإفريقية التي درست في فرنسا وتشبعت بإيديولوجياتها لتخدم مصالحها مستقبلا .    تعود جذور هذا المد الأيديولوجي في إفريقيا إلى  انتصار الثورة الإيرانية الذي يعتبر منعطفا هاما في تصدير ثقافتها الى شعوب العالم بناء على ما أسمته  بالثورة الثقافية و انشات المجلس   الأعلى للثورة الثقافية يضم مجموعة هائلة من المؤسسات  الثقافية و الإعلامية التي تعمل على نشر المذهب الشيعي و التعريف به  في البلاد الإسلامية وغيرها  إضافة إلى ما يقوم به مركز الابحاث العقائدية التابع لمرجعية السستاني  بدور إعلامي هام بالبحث عن المواقع المعادية للشيعة و استقطابها الى الحوار    +    متابعة أهم الصحف والمجلات والمنشورات الناشرة لمواضيع التشيع  في 25 دولة + تنضيم مقالات علمية حول مذهب  آل البيت + انشاء الشبكة العالمية لمركز الأبحاث العقائدية  مختصة بالأبحاث العقائدية و المسائل الخلافية  يزورها الاف الاشخاص يوميا من دول العالم  و يقوم مركز الأبحاث العقائدية بنشر و إرسال كتب  رد الشبهات مجانا في شتى بقاع العالم  وبالتحديد أكثر من 100 دولة في العالم  . ونشير هنا الى دور كل من العنصر اللبناني ممثلا في الجالية اللبنانية في افريقيا و العنصر العراقي ممثلا ف الرحلات العلمية و العنصر الخليجي ممثلا في الدعم المالي و العنصر الكويتي ممثلا في مؤسسة عصر الظهور حيث تقوم بدور هام في نشر رسالة التشيع  بصور متباينة  .  اضافة الى الجهود الداخلية لنشر التشيع من بناء المدارس والمساجد والحسنيات والجامعات  والجهود الخارجية ممثلة الممثلة في استقطاب الطلبة في العالم للدراسة في الجامعات الايرانية  و الحوزات العلمية  كما يشكل موسم الحج فرصة للتواصل ونشر الفكر  من خلال الكتب التبليغية بمختلف اللغات
كل هذه المجهودات كان لها اثر واضح على البلاد الإفريقية منها تعرض مبدا الامن الروحي و وحدة العقيدة لهزات منذ عودة الطلبة الشباب من ايران بفكر جديد  و ما خلفه رد فعل الاهالي من حرق المركز التشيع الرئيسي في نيجيريا  و مقره في زاريا و السوكوتو  وحالات مشابهة في جزر القمر وحرق الكتب في السودان نتيجة منازعات حول تواجد كتب تسب الصحابة في معرض الكتاب 2006 الى توقعات بحدوث  حرب أهلية ففي غامبيا يذكر عثمان بن محمد مؤسس المركز الإسلامي للتقريب بين المذاهب  عن حصول ازمة قادت الحكومة الغامبية الى  اعتبار المذهب الشيعي غير قانوني معتبرا أن الأزمة بلغت إلى حدود الحرب الأهلية   إلى حالات التفكك الأسري حيث حالات الطلاق بسبب تشيع الزوجة و رفع الدعاوى القضائية   ونستحضر هنا نموذجين لتشيع من خلال جولة نيجيريا والسنغال 

jeudi 28 février 2013

الروح الفاوستية



كتبها : زكرياء الزوادي

خلال بحثي في الحداثة الاوروبية وقفت على بحث الاستاذ الكبير اوزفالد شبنجلر حينما تحدث عن
 الروح الفاوستية للحضارة الاوروبية نسبة لرائعة غوتة الالماني فاوست  و التي لها جذورها التاريخية في المخيال الجماعي الاوروبي , نسبة لرائعة غوته الألماني فاوست  حيث تبرز النفس الفاوستية المتطلعة للخلود الذي يقودها إلى الفراغ اللامتناهي .  فالتعطش للمعرفة و الولع الشديد بالغموض يقود فاوست لبيع روحه للشيطان في سبيل ذلك .
تتلخص هذه المقاربة في ان الحضارة الحديثة التي صنعتها اوروبا بسياقها التاريخي الممتد من القرن الثالث عشر الى اسمى تجلياتها في القرن التاسع عشر , ما هو إلا امتداد ونجاح لفكرة عدم الركون الى الماضي بحيث يكون الماضي مقدمة للانطلاق لا سلطة للجمود و هو ما تعبر عنه  الروح الفاوستية الرافضة للركون الى الماضي ,  ...

vendredi 1 février 2013

سوريا في مهّب التحولات الدولية .دراسة جيوبوليتيكية نظرية


كتبها الزميل جلال خشيب من الجزائر

تمهيد :

"من الممكن أن نهاية الحرب الباردة ستعوض بمجموعة واسعة ومتعددة من الحروب الباردة الصغيرة بين القوى الكبرى". … لقد كان صاموئيل هنثينغتون محقا حينما عبّر بصيغته هذه عن التحدّي الجديد الذّي سيواجهه النظام الدولي الجديد المنبثق عن حرب باردة انتهت بانتصار الليبرالية الغربية بتزعم مطلق للولايات المتحدة دون أن ينتهي معها منطق التاريخ ، فالديناميكية من خاصية البشر و سيادة الانسان لا تُحجمه عن فعل التنافس و منطق تواصلية الصراع من أجل الاعتراف كما يعبّر عن ذلك إكسيل هونيث في نقديته الجديدة امتدادا للنزعة النيتشوية الرافضة لمنطق السكون البشري و القناعة الإنسانية..


   فمنذ تفكك المنظومة السوفياتية شهد حقل الدراسات الدولية تحوّلات كبيرة سواء تلك المرتبطة بالنَزَعات التنظيرية الجديدة الثائرة على المنظور الوضعي أو بتلك المرتبطة بمنهجية التحليل و مستوياته و أدواته المعرفية .. فمن هذه التحوّلات أنّنا أصبحنا نبدي اهتماما أكبر بالأنظمة الإقليمية و مستوياتها التحليلية  بدلا من الارتهان لمنطق النظام الدولي الذي كان منطقا متناسبا بحق مع ما شهدته الساحة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى من ديناميكية تسارعية  .. فانتهاء الحرب الباردة لم يكن في الحقيقة إلاّ بداية لحقبة جديدة من التنافس الدولي ، إذ لم تكن مقولة النظام الدولي الجديد - بزعامة أمريكية مطلقة- و التي بشّر بها تشارلز كروثامر إلاّ وصفا لفترة زمنية قصيرة جدّا من بهجة الانتصار ، فلم يكن هذا النظام الجديد إلاّ مرحلة انتقالية تحوّلية في مسار بنية النظام الدولي نحو التعدد ، فالافرازات الجديدة للحرب الباردة لم تكن كإفرازات سابقاتها من الحروب ، تحوّلات بنيوية على جميع المستويات ، قوى دولاتية إقليمية ، فواعل غير دولاتية "مايكروسكوبية" مؤثرة ، انتهاء مفعول الثلاجة و صعود الأديان و تأثير خطاب الإديولوجيات ، تفجّر النزاعات الإثنية …إلخ  ممّا جعل كل طرف في هذا العالم طرفا "حسّاسا" فاعلا و متأثرا في نفس الوقت "مفعول الفراشة" … كل ذلك ساهم في بلورة جديدة لمفهوم الأمن المتجاوز لمنطق الدولة الصلب ..

   و لم تكن منطقتنا العربية إلاّ ساحة من ساحات هذه الحروب الصغيرة في هذا العالم الجديد إن لم تكن أهم المناطق على الإطلاق ..

1-المستوى الدولي :

   لا أحد يساوره الشك في مفتاحية المنطقة العربية بمشرقها و مغربها في مشروع الخطة الأمريكية الكبرى كمنطقة ارتكاز في بعض مناطقها التّي غدت جزءً لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي ، لذا كان أي تهديد أو خطر يمّس هذه المناطق يعّد بمثابة تهديد للأمن القومي الأمريكي ممّا يستدعي مواجهته بحزم ، لذا فقد عملت الأخيرة على نسج شبكة معقدة من الحلفاء هناك خاصة منذ الاجتياح العراقي للكويت و الذّي زاد قناعة الأمريكيين في ضرورة التواجد الميداني لقواتهم هناك ممّا حوّل جزءً حسّاسا من المنطقة إلى ما يشبه بالمحمية الأمريكية العسكرية بحكم الواقع و منطقة عسكرية متقدمة من التراب الأمريكي شنّت إنطلاقا من قواعدها حروبها العالمية على الإرهاب فيما بعد ، تلك الحروب التّي سرّعت عملية التحوّل في بنية النظام الدولي ..

   في مقال سابق جاء تحت عنوان "فلسفة الإستراتيجية الأمريكية" حاولنا أن نبيّن في احدى فصوله تلك النزعة الثورية في السياسة الخارجية التّي تبنتها إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر محطمين بذلك ما أسميناه "بالستاتيكو المقدس" و ما تبعه ذلك من آثار سلبية على وضع الهيمنة الأمريكي على النظام الدولي المتشكل ، إذ لم تكن حروبهم في أفغانستان و العراق و القوقاز و أزماتهم الدولية مع كوريا الشمالية و إيران و في أوكرانيا .. وكذا حروب حلفائهم الاسرائيليين في المشرق العربي " حرب 2006 على لبنان و كذا حربهم على غزة 2008 " إلاّ على حساب الإرادة الامريكية في إطالة زمن الهيمنة قدر المستطاع ، و بقدر ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعاني شبح الانفلات كانت قوى أخرى صاعدة من أكثر المستفيدين ، فأي انفلات للهيمنة يعني توّجه النظام الدولي إلى صيغة أخرى أقرب للتعدّد منها إلى الانفراد ، تعدّد تفرضه قوى إقليمية و دولية أخرى بحكم الواقع تقف روسيا و الصين على رأسها و تتدافع فيها أخرى صعودا على المستوى الإقليمي كالهند ، تركيا ، إيران ، البرازيل و المكسيك .. لذا فقد تعالت أصوات أكاديمية و أخرى سياسية داخل الأروقة الأمريكية بضرورة تدارك الوضع و تصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية تكتيكيا تناسبا مع هدفها الأكبر .. إدامة حقبة التفوق الأمريكي ما أمكن ..

   لقد كانت المنطقة العربية –لاسيما مشرقها- من أكبر المتضررين من هذه السياسة الخارجية الأمريكية الثورية المحافظية الجديدة لكن و بالرغم من الانتهاء الرسمي لحقبة المحافظين الجدد إلاّ أنّ ملامح سياستهم لا تزال بادية في إدارة أوباما الجديدة ، إذ لا يزال منطق الاستقطاب السياسي الإقليمي يطبع المنطقة ، فلا تزال الولايات المتحدة و حلفائها في اسرائيل و الخليج تقف في مواجهة دول مارقة كإيران و سوريا و حلفاءهما في لبنان و الأراضي الفلسطينية المحتلة .. أمّا المستحدث فطرأ على مستويين : تنامي الدور الروسي في علاقاته مع "هؤلاء المارقين" الذين يزدادون تصلبا و عنادا على قلب موازين المنطقة في غير الصالح الأمريكي ثم محاولة كل من تركيا أوغلو و قطر الجزيرة لعب دور إقليمي ما … ممّا جعل المنطقة المشرقية بأكملها مخترَقة من قبل قوى أخرى غير الولايات المتحدة ، في حين يُخترق غربها "المغرب العربي و كامل افريقيا" من قبل قوة دولية أخرى اسمها الصين … اذن فكل الجهود الأمريكية في توطيد دعائم تواجدها الانفرادي هناك عبر شبكة حلفاء دولاتيين "أنظمة عربية حليفة" و غير دولاتيين في هكذا مناطق إرتكازية آيلةٌ إلى التراجع و الاختراق ممّا يستدعي ضرورة الإقدام على خطوة حاسمة تقطع الطريق أمام هؤلاء المنافسين الجدد الصاعدين ..



* الثورات العربية و انتقائية التغيير :



   في كتابه الأخير "الإسلام و الصحوة العربية" يذكر البروفيسور طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أكسفورد بشيء من التفصيل كيف حاولت الولايات المتحدة الامريكية استغلال الاحتقان الشعبي على أنظمة الاستبداد العربية بعد عقود طويلة من القهر و التدهور الاجتماعي و انسداد أفق الحرية و الديمقراطية التّي كانت تدعو إليها الولايات المتحدة و من وراءها هذه الانظمة و نخبها السياسية و الفكرية ، و قد مهدّت لذلك منذ سنة 2004 من خلال عمليات تكوين شبانية لمدونيين و شباب عرب في مراكز بوبوفيتش "كانفاس" و مثيلاتها في صربيا و ما جاورها … و قد كانت حادثة الشاب البوعزيزي القطرة التي أفاضت الكأس و أشعلت نار الفتيل لانتفاضات شعبية هدفها الوحيد هو التخلص من طوق الاستبداد السياسي النظامي تأسسا لنهضة بنيوية في هذه المجتمعات .. اذ بدأت الثورة في تونس و انتهت بهروب الرئيس بن علي ، و امتدت لمصر فأسقطت آخر فراعنتها ،  اشتعلت في اليمن فأبعدت صالحا و كانت جذرية و عنيفة في ليبيا بعد تدّخل الناتو … في حين قُمعت في المهد في كل من السعودية و البحرين ، و حاولت بعض الأنظمة السياسية امتصاصها و عزلها مثلما حدث في الجزائر و المغرب الأقصى .. و قد بدى جليا انتقائية الموقف الأمريكي تجاه هذه الانتفاضات وفقا لمصالحها و مصالح حلفائها ، كما بدى أيضا ذلك التنافس المحموم بين الولايات المتحدة التّي تحاول إحداث وضع جديد متحكم فيه لصالحها و بين قوى أخرى على رأسها روسا في المحافظة على وضع قائم يكفل مصالحها في المنطقة ، و بما أنّها خسرت وضعا مناسبا في ليبيا بشكل حاسم و مذّل على يدّ الناتو كذراع عسكري للولايات المتحدة فإنّها تأبى اليوم هزيمة مذّلة أخرى في معاقلها العربية الأخيرة سوريا ، و هنا سيتوقف مقالنا قليلا لمحاولة تكوين فهم "فوقوي" لما يحدث على الساحة السورية المشتعلة …



2-  سوريا و التنافس الروسي الأمريكي :

كيف نفسّر ما يحدث على الساحة السورية من تنافس ؟

لماذا كل هذا الدعم الروسي المستميت لنظام بشار الأسد في سوريا ؟

هل ستفقد روسيا آخر قلاعها الحصينة في المشرق العربي ؟

    يرى البروفيسور سانتورو رئيس معهد الدراسات السياسية العالمية في ميلانو أن الإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدد الأقطاب، والتي تبدو –حسبه- أنها تعكس المنطق الهرم للجيوبوليتيكا الثنائية القطبين –أي التيلوروكراتيا في مواجهة التالاسوكراتيا- فبالرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن العالم كله لا يزال يحمل الطابع الثابت للحرب الباردة والتي يبقى منطقها الجيوبوليتيكي مسيطرا... لذا فقد تنبأ الرجل بأنّ العالم سيشهد حروبا من المستوى الصغير و المتوسط ستؤدي إلى تشكّلات جيوبولتيكية جديدة  .

فهل ستكون سرويا ساحة لجرب جيوبوليتيكية جديدة بين الكبار ؟


   في الحقيقة لم نجد إلى الآن أحسن من الأنموذج القياسي الواقعي في تفسير ما يحدث من تفاعلات بين القوى الكبرى على الساحة السورية ،  فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كتب جورج كينان سنة 1947 تقريرا للإدارة الأمريكية آنذاك يحاول فيه أن يرسم إستراتيجية متماسكة لمواجهة الحليف السوفياتي القديم و قد عرفت بإستراتيجية الإحتواء و هي فكرة جيوبولتيكية محضة تحثّ الولايات الأمريكية على التمركز في نقاط معينة من البر الأوراسي سواءً عبر قواعد عسكرية أو أحلاف مركزية أو أنظمة صديقة ، هدفها الأساسي محاصرة "قلب الأرض" الأوراسي و دفعه إلى الداخل ما أمكن تجنبا لتمدّده خارج حدوده السياسية تمهيدا لفكيكه من الداخل … تزامنا مع ذلك صدرت نظرية الواقعي الأمريكي نيكولاس سبيكمان عن حافة الأرض أو الإطار" the rim land "  حيث يشير إلى المناطق –الهلال- التي تحيط بقلب الأرض "الروسي" وتحفه، ولهذا سميت بالإطار أو حافة الأرض، والذي يضم كل من أوروبا البحرية "الغربية" والجزيرة العربية بما فيها العراق والهند وجنوب شرق آسيا ثم الصين وشرق سيبيريا، إنه بعبارة أخرى، الحدود البحرية للقارة الأوراسية من شرق سيبريا إلى غرب أوروبا .. وتمثل حافة الأرض "الريملاند" المجال المركب الذي يتسم من حيث الاحتمال بإمكانية أن يكون جزءا من التالاسوكراتيا –أي القوة البحرية- أو التيلوروكراتيا – أي القوة البرية- ، وهو المنطقة المعقدة والزاخرة بالثقافة، وتأثر البيئة البحرية "القوة البحرية" في المنطقة الساحلية فتثير فيها التطور الفعال والديناميكي، كما أن للكتلة القارية "التيلوروكراتيا" ضغوطا عليها، وصراع التالاسوكراتيا – الأطلسية الجديدة- والتيلوروكراتيا –روسيا الجديدة- ، على الريملاند ليس تنافسيا من أجل الاستحواذ على موقع استراتيجي عادي، وإنما على ما يعتبره سبيكمان مفتاح السيطرة العالمية، فحافة الأرض الأوراسية بالنسبة له أكثر أهمية من قلب الارض " أو لنقل المساحة التي تسيطر عليها روسيا" و من يسيطر على حافة الأرض سيسيطر على قلب الارض و من يسيطر على قلب الارض سيحكم العالم … و أخيرا يعتبر سبيكمان أنّ الريملاند بمثابة منطقة حاجزة تفصل بين القوى المتصارعة البرية والبحرية، في زمن السلم، كما تعتبر منطقة التقاء و تصادم Crush Zone بين القوى البحرية والبرية في زمن الحرب …

   بناءً على ذلك فقد عملت روسيا  منذ مجيء بوتن للسلطة على استدراك ما اعتبره الكثيرون خطأ القرن الإستراتيجي أي قرار غورباتشوف بحل الإتحاد السوفياتي ، فمنذ ذلك الوقت و روسيا تعاني أزمة جيوبوليتيكية تهدّد أمنها القومي بفعل الإمتداد الأطلسي إلى جوارها القريب ، لذا فالإستراتيجي بالنسبة لروسيا اليوم و الأكثر إلحاحا الآن هو الحرص على تحويل "الأراضي الساحلية" إلى حلفاء لها عبر التغلغل الاستراتيجي إلى هذه المناطق و إقامة أحلاف متينة في مواجهة السطوة و التمدّد الأطلسي الجديد … لذا ينبغي عليها التحرك شرقا و غربا لتحقيق هذا التكامل الأوراسي القاري فيصبح بذلك الريملاند ضرورة لروسيا لتصبح فعلا قوة جيوبوليتيكة قارية مستقلة ..

   لذا فقد حرص الروس على عدم التراجع أو التردّد في مواصلة هذه الإستراتيجية الكبرى و التّي تتطلب منهم امكانيات ضخمة لتفعيلها ن لذا أولت روسيا منذ مجيء بوتين اهتماما كبيرا بتحسين اقتصادها بدلا من تركيز كل الجهود في الصناعات الحربية الثقيلة و قد لاحظ الجميع تلك الديمقراطية الروسية "المضحكة" التي تقوم على تبادل الأدوار و تغيير الواجهة و حسب ، كل ذلك يهدف –في نظرنا- إلى استمرار خطة كبرى معينة أي استراتيجية واضحة في أذهان حكام الكريملين تهدف إلى استرجاع أمجاد روسيا القيصرية و الخروج بها من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم لتأمين الأمن القومي الروسي البعيد …

لقد كانت الحرب الجورجية الأخيرة –أوت 2008- مثالا جيدا لما يمكن أن يصل إليه التنافس الجيوبوليتيكي بين روسيا التيلوروكراتيا وأمريكا التالاسوكراتيا و قد كانت ساحتها هذه المرّة منطقة القوقاز، فالمشاريع الجيوبوليتيكية والإستراتيجية للقوتين بلغت حدًّا من التناقض والتضارب الذي يجعل القنوات الدبلوماسية والسياسية تقف عاجزة عن تجاوزه، ومع ضيق الزمن، وحساسية المصالح وتقلص الخيارات، تبرز الحرب كوسيلة حتمية ووحيدة لتجاوز هذا التناقض أو بلوغ تلك المصالح، هذا هو النوموس الذي خلده كلاوزفيتز في مقولته الشهيرة : " الحرب هي إمتداد للسياسة بوسائل أخرى " …

لم تكن الحرب الجورجية هذه، مواجهة مباشرة بين المديان الكبيران، رغم ذلك تعد علامة فارقة وإحدى أهم خطوات الاتجاه نحو الانتصار الجيوبوليتيكي لأحد هذان المديان، فمنافستها المحمومة على القوقاز رشّح هذه المنطقة إلى مصاف المناطق الإرتطامية، وكانت جورجيا بذلك-في هذه المرحلة بالذات- بمثابة جسر المرور الأكيد والمجال الحتمي للمعركة الساخنة والباردة بين قطبي القوى والذي لا يمكن لأحدهما أن يصل إلى الآخر إلا بالمرور عبره والتباري في ملعبه .. و قد انتهت هذه الحرب بضربة موجعة وجهّها البر الأوراسي للتلاسوكراتيا الأمريكية  و خرجت منها موسكو متنمّرة ، بل جرى الحديث آنذاك أنّ الحرب الجورجية الأخيرة كانت بداية لنهاية الأحادية الأمريكية و تمهيدا لنظام دولي متعدّد الأقطاب تحتل فيه روسيا العائدة مكانة الكبار .. و إذا كانت جورجيا قد احتلت قبل سنوات قليلة مركز التجاذب كمنطقة صدام في عُرف الجيوبوليتيكا فإنّنا نرّشح سوريا لتكون اليوم ساحة تجاذبات إقليمية و منطقة إرتطام جيوبوليتيكة بين المديان الجيوبوليتيكيان الكبيران .. إذ يرى سبيكمان في تحليله من أن مركز الدولة في إطار السياسة الدولية، لا يتوقف من الناحية الجيوبوليتيكية، على موقعها الثابت، وإنما يعتمد أيضا وإلى حد بعيد على علاقة هذا الموقع بمراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، ولما كانت مراكز القوى هذه في حالة تغير لأسباب عديدة، فإن قيمة الموقع الجغرافي للدولة هو الآخر يتغير، ليس من الناحية الجغرافية، وإنما من حيث طبيعة التفاعلات السياسية، بعبارة أخرى أن التفاعلات السياسية وتغير مراكز القوى الدولية تؤثر على القيمة السياسية للموقع الجغرافي.



   و بهذا المفهوم فإنّ سوريا تُعّد اليوم وفقا للإستراتيجية الأمريكية جزءً حساسا من حافة الارض لمحاصرة روسيا من جهة الجنوب الغربي و الحيلولة بينها و بين المياه الدافئة لذا فإقامة أنظمة حليفة في مناطق حساسة كهذه –و التّي تمثل دفاعات متقدمة للأمن القومي الروسي- مطلب أمريكي ملّح  .. إضافة إلى ذلك فإنّ سوريا اليوم تعّد دولة إرتكازية - pivotal states – على حدّ تعبير البروفيسور بول كينيدي في احدى مقالاته عن الإستراتيجية الأمريكية –إلى جانب جورجيا في القوقاز -  لذا فأهمية المنطقتين بالنسبة للطرفين يجعل من المنطقتين بالمفهوم الجيوبوليتيكي منطقتي ارتطام …

   فلنأتي الآن لنملئ الفجوات .. في 2011 ألقى البروفيسور نيل فرغيسون أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة هارفرد محاضرة في الشاتهام هاوس البريطاني  تحت عنوان : " الغرب و البقية ، تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي " تحدّث فيها عن حقيقة الصعود الصيني و تزايد نفوذه الإقتصادي في إفريقيا و ما يشكله ذلك من تهديد لمصالح الغرب و الولايات المتحدة مستقبلا ، و كما هو معلوم فإنّ القوتين الصينية و الروسية تتحركان بشكل متوازي في الجهة المقابلة للتحرك الأمريكي لذا كان لزاما على الأمريكيين أن يبادروا بالتحرك قبل فوات الأوان ، و هنا نرجع إلى الفكرة السابقة للبروفيسور طارق رمضان حينما نربط هذا الحراك الشعبي و نضعه في قالب بنيوي دولي .. فبعد تحالف دام عقودا من الزمن ها هي الولايات المتحدة اليوم تعمل على فكّ هذا الإرتباط بينها و بين بعض الأنظمة العربية التّي رعتها لعقود و الذّي أصبح تواجدها اليوم مضّرا بالمصلحة الأمريكية في المنطقة لذا فإنّ عملية تحريك توازنات المنطقة و إعادة تشكيل خارطتها السياسية أصبح مطلبا لابّد منه و ذلك في منحى يساعدها على تقويض القوى الصاعدة في الشرق لاسيما الصين و كذا روسيا ايضا ، إذ لا يريد الأمريكيين استمرار العلاقات الطيبة بين قوى الشرق و خزان العالم المستقبلي في إفريقيا و مناطق ارتكازها و المناطق التّي يتغلغل منها نفوذ الأعداء المنافسين في الشرق "روسيا و الصين"  لذا فتغيير الأنظمة في مناطق معينة سيساعد على كبح هذا النفوذ المتزايد لقوى الشرق قبل أن يستفحل هذا النفوذ … و قد تزامن ذلك مع احتقان الشارع العربي لذا رأت الولايات المتحدة فرصة مواتية في ذلك عليها أن تتخذ معها قرارها الحاسم فراحت تدّعم وتموّل ثورات و تقمع أخرى قد تنشب في مناطق حسّاسة تحميها أنظمة موالية و حليفة أي منطقة الخليج العربي عموما ، السعودية على وجه الخصوص … و بناءً على ذلك كان سقوط النظام السوري مطلبا أساسيا و ملّحا لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و حلفاءها الخليجيين و خطا أمنيا دفاعيا متقدما و منفذا استراتيجيا هجوميا لكل من روسيا و الصين … فهل سيحدث في سوريا ما حدث في القوقاز ؟ هل ستندلع الحرب قريبا ؟ أمّ أنّ الوضع السوري أكثر تعقيدا  و تداخلا ؟

إنّ الإجابة على مثل هذا السؤال يحتاج منّا إلى ومضات نظرية ؟



- إنّ الدول الكبرى لا تفكر في مدى قدرتها على شن الحرب و هزم العدو أكثر مما تفكر في تعبات هذه الحرب و تداعياتها …

- الدول الكبرى توازن بين الأهداف و المصالح و بين نتائج السلوك السياسي أو قرار الحرب وفق مبدأ العقلانية -وإن كانت عقلانية جزئية كما اتفق على تسميتها باحثو العلاقات الدولية- …

- الدول لا تتردد في الدخول في حروب لو رأت أن نتائجها الإيجابية البعيدة أفضل من النتائج السلبية البعيدة لقرار اللاحرب …

- الدول لا تتوانى عن خوض الحروب إذا رأت أن أمنها القومي مهدّد و مفهوم الأمن القومي في الدراسات الأمنية لا يرتبط بالحدود الجغرافية للدولة و حسب كما هو معروف فلكل دولة أمنها القومي المتوافق مع نطاق تأثيرها و مصلحتها القومية …

 - و أخيرا الدول الكبرى لا تتوانى عن خوض ما يسميه روبيرت جيلبين بحروب الهيمنة إذا رأت أن الحرب ستمكنها من انتزاع شاهد الهيمنة من المهيمن فأدركت أن الوقت صار مناسبا وأنّ المهيمن يفقد توازنه و يتداعى .. إذ يرى جيلبين أن المحافظة على مكانة الدولة المهيمنة يتطلب منها مصاريف هائلة للدفاع عن مواقعها، الأمر الذي يتم على حساب النمو الاقتصادي، هذا ما يعني أن قانون نسب النمو المتفاوتة (الغير متكافئة) يلعب عاجلا أم أجلا في صالح القوى الثانية والتي إن قدرت إحداها أن هذا النظام لا يلعب في صالحها وأن الفائدة المنتظرة تكون عبر تغيير هذا الوضع القائم فإنها لن تتردد في منافستها للقوة المهيمنة الشيء الذي ينتج عنه ما يعرف بـحروب الهيمنة و هي كما يعرّفها بأنّها :"حرب لا تتمحور فقط حول محاولة تحقيق أهداف مباشرة بل لامتداداتها وتحدياتها ذلك أنها تمس كل الوحدات الدولية المكونة للنظام".

لذلك فإن حرب الهيمنة هذه هي عبارة عن حرب شاملة هدفها وضع أسس جديدة لنظام دولي جديد، "صراع الهيمنة الذي ينتج عن اختلال التوازن المتزايد بين ما تملكه الدولة المهيمنة من إمكانيات وبين ما يتطلب من إمكانيات من أجل الحفاظ على النظام، هذا ما يؤدي في النهاية إلى ميلاد نظام دولي جديد".

   انطلاقا من هذه الومضات النظرية النيوواقعية يمكن القول أنّ الأزمة السورية بتعقيداتها الإقليمية تعّد ساحة حقيقية لانبثاق نظام دولي جديد ، فالولايات المتحدة تلعب اليوم دور المهيمن في حين تلعب كل من روسيا و الصين دور المتربص بتراجع هذا المهيمن ، فالخسائر الكبرى التي منيت بها الولايات المتحدة منذ إعلان مشروع القرن الأمريكي على أيدي المحافظين الجدد و الاضطرابات الإستراتيجية التّي أحدثها هؤلاء في غير الصالح الأمريكي جعل الولايات المتحدة اليوم في حالة اضطراب و تراجع نسبي ، و سمح في الوقت ذاته لكل من القوى الصاعدة أن تحاول إيجاد موطأ قدم مناسب لمكانتها الإقليمية أو الدولية ، فالتحالف الضمني بين روسيا و الصين تجاه الأزمات الدولية الكبرى سيصنفهما حتما للعب دور القوى المتربصة التي لن تتوانى في اختيار الوقت الحاسم لإحداث التغيير في بنية النظام الدولي بإعتبارها قوى تعديلية كما يصفها الواقعيون الهجوميون ، لكن كون الساحة السورية منطقة ارتطام جيوبوليتيكة كما قلنا لا يعني بالضرورة أن تكون ساحة لحرب مباشرة بين القوتين الكبيرين هناك فليس الأمر بهذه البساطة ، فمبدأ العقلانية كما أشرنا يقطع الطريق أمّام نشوب حرب مباشرة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها ، فالواقعية لا تعني التهوّر كما يقول كيسنجر  ، فمنطق الردع النووي أو حتى الردع التقليدي لا يسمح بالحرب المباشرة –منطق العقربين في زجاجة كما يصف كلوزفيتز-خاصة في منطقة حساسة جدا متشابكة الأزمات … إذن ما نتحدّث عنه هنا هو ما يسمى في أدبيات الدراسات الدولية بحروب الوكالة ..




3- المستوى الاقليمي :

في حالة ما إذا سقط النظام السوري - المتصدّع- :

هل ستنضم سوريا إلى قائمة الدول الفاشلة " failed states " ؟
و بالتالي هل ستتحوّل سوريا إلى مصدر للا أمن في المنطقة ، مصدرا مُصدّرا لمخاطر و تهديدات عديدة على دول الجوار ؟
هل ستفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة ؟

هل سيحمل سقوط النظام السوري أولى بوادر الثورة الملوّنة الجديدة في إيران ؟
أم سيكون ذلك عاملا مشجعا على التفكير الجدّي في حرب جديدة في المنطقة في مواجهة إيران بعد إحكام الطوق الإستراتيجي عليها ؟

    لا تزال منطقة "الشرق الأوسط" تعاني إلى اليوم من تبعات سقوط النظام العراقي بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ، إذ تحوّلت العراق إلى ساحة حقيقية لصراع مصالح إقليمي لعب فيه التأجيج الطائفي الديني المتعمد دورا فعّالا في كسب هذا الطرف أو خسارة ذاك نقاطا على حساب الآخر ، فبعد أن استعملت السعودية و دول الخليج نظام صدام حسين لجعل العراق بوابة متقدمة لحماية أمن المنطقة ممّا أسموه بالمدّ الشيعي الصفوي منذ الثورة الإسلامية الخمينية في إيران ، ها هي تصطف إلى جانب الولايات المتحدة سنة 2003 لإسقاط هذا النظام الذّي صار يشكل تهديدا مباشرا لمصالحهم لا يقل عن التهديد الإيراني و ذلك منذ اجتياحه للكويت سنة 1991 ، لكن ما لم يحسب له هؤلاء بمساهمتهم الفعالة في إسقاط نظام صدام حسين سنة 2003 هو تسليمهم لبوابتهم القديمة لعدوهم و منافسهم القريب إيران في طبق من ذهب  فقد فتح سقوط النظام دولة العراق لتمارس فيها إيران نفوذها التّي لم تحلم به يوما ، لذا تطلّب ذلك من زعماء الخليج بذل مزيد من الإمكانات للإبقاء على نفوذهم هناك حمايةً لأمنهم الإقليمي ممّا حوّل العراق إلى ساحة لتجاذبات إقليمية بين القوتين مزقت حضارة بابل العريقة و حوّلت العراق إلى دولة فاشلة مصدّرة لمختلف المخاطر و التهديدات الامنية لكامل دول الجوار الإقليمي ..

   لا نعتقد أنّ عرب الخليج يتعلمون من دروس التاريخ أو لنقل أنّهم ينسونها بسرعة أو بعبارة أدّق فقد حسموا خيارهم الإستراتيجي منذ بناء أوّل قاعدة عسكرية أمريكية هناك ، و ها هم اليوم يجتهدون لإسقاط النظام السوري بنفس الطريقة التّي أسقطوا بها غريمهم الأوّل … إذ تشهد المنطقة اليوم مناخا شبيها بمناخ ما قبل سنة 2003 ، عمليات شيطنة لنظام الأسد ، دعم خصومه في الداخل ، فتاوى سياسية جاهزة تستبيح دماء الأسد و أعوانه ، تمهيدا لقرار الحسم الذّي يصطف فيه هؤلاء إلى جانب حليفهم الأمريكي لإسقاط النظام السوري بطريقة ما .. و إذا كان عرب الخليج لا يستنبطون من دروس التاريخ عبرا و فوائد فإنّ الأمريكيين أكثر حذرا من هؤلاء ، إذ سيعّد هؤلاء حتّى الألف قبل اتخاذ أي قرار رسمي بتدخل عسكري أطلسي في سوريا للأسباب التّي وضحناها نظريا و تطبيقيا في الفصل السابق .. لذا فعملية حصر البدائل و قياس نتائجها كما تطرحه مقاربات اتخاذ القرار في السياسية الخارجية تبدو عملية صعبة جدّا و معقدة بالنسبة للولايات المتحدة  وإذا استبعدنا قرار التدخل المباشر كما حدث في ليبيا فإنّ عملية التفتيت من الداخل بأيدي غير أمريكية سيكون الأنسب و سيحمل الربيع العربي بشرى سارّة للسوريين ، و من هنا جاء خيار دعم المعارضة المسلحة في الداخل كأحسن بديل مطروح في هذه الآونة بعد أن مهّد له "الأصدقاء الخليجيين" بأموالهم و ألقوا بفتاوى شيوخهم وسط العامة من الشعب لذا ينبغي على أي متتبع حاذق أن يقرأ كلّ تأجيج طائفي عبر فتاوى السوء في هذه المرحلة بالذات من مسار الأزمة السورية بإعتباره ليس إلاّ امتدادا طبيعيا لصراع استراتيجي يحكمه عامل المصلحة بين قوتين إقليميتين في المنطقة "السعودية و إيران " ، سيكون الدين إذن -قياسا على مقولة كلاوزفيتس الشهيرة- امتدادا طبيعيا للسياسة بوسائل أخرى … فكما ذكرنا  أنّ سوريا ستتحوّل إلى ساحة تجاذبات إقليمية حادة و مسرحا لتحقيق الأفضلية الأمنية للأمن القومي المتقدم لكل القوى الأطراف المتنافسة سواءً دولية متمثلة في " الولايات المتحدة و روسيا " أو إقليمية " السعودية و حلفاءها في مقابل إيران التّي ستجد نفسها معزولة إقليميا و هذا هو المقصد الأوّل من إسقاط النظام السوري … فهو-إقليميا- مجرد مرحلة تكتيكية لهدف إستراتيجي يستهدف إيران ، و هنا نعيد التذكير بتنافس إقليمي آخر مترابط  بين الإيرانيين و الإسرائيليين ، الأولى كقوة إقليمية طامحة لاكتساب مزيد من القوة حسب تعبير جون ميرشايمر عن هدف الدولة ، و الثانية كقوة إقليمية تسعى بكل طريقة لحفظ البقاء حسب تعبير كينيث والتز "فبعد هدف البقاء قد تتعدّد أهداف الدول بأشكال متنوعة " ، فسقوط النظام السوري سيفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة و يجعلها دولة حبيسة من ناحيتها الجنوبية و يغلق قنوات الاتصال بينها و بين حليفها في جنوب لبنان حزب الله كحليف متقدم على تراب عدو إسرائيلي منافس و سيحوّل سوريا إلى دولة عازلة –لصالح إسرائيل- كالأردن تماما و هذا يتطلب جهودا حثيثة لبثّ الاستقرار ما أمكن في سوريا قبل أن تتحول إلى دولة فاشلة مصدرة لأشكال لا متناهية من المخاطر و التهديدات على الإسرائيليين ، إذا فرهان الولايات المتحدة و حلفاءها في المنطقة يدور حول ردّ الفعل الإيراني بعدما يجد الإيرانيون أنفسهم في وضع حرج معزولين ، قد يكون البديل العقلاني المتاح أمامهم هو إعادة التفكير الجدّي في مشروعهم النووي و الكف عن لعب دور الممانع الشرعي للشيطان الأكبر فيحفظوا لأنفسهم الاستقرار و لنظامهم التماسك … فهل سينحو الإيرانيون هذا المنحى في المستقبل القريب أم سيتمسكون بمطالبهم الشرعية النووية ليلعبوا وقتهم الأخيرة داخل التراب السوري طمعا في حفظ نفوذهم هناك كما فعلوها في العراق ؟ سيكون ذلك مرهونا بالخارطة السياسية التّي ستنبثق عنها الساحة السياسية ما بعد نظام الأسد الآيل إلى التصدع و السقوط …

   لن نغادر هذا المستوى التحليلي حتى نشير في عجالة إلى ثلاث قوى إقليمية تنامى تأثيرها في الآونة الأخيرة أو سيتنامى قريبا :

الدور القطري عبر قناة الجزيرة  الإعلامية كدور مكمّل و متكامل مع الدور السعودي ..

النشاط غير المسبوق للسياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة ..

و أخيرا الدور الذّي ستلعبه مصر الجديدة ..

   لقد كان لكل من القوتين الأولى و الثانية تأثيرا متباينا على الأزمة في سوريا و على الحراك الشعبي الحاصل عموما منذ ثورة الياسمين في تونس ، إذ حاولت دولة قطر المجهرية أن تلعب دورا إقليميا كبيرا من خلال القوة الإعلامية التّي مثلتها قناة الجزيرة التّي بدى في الآونة الأخيرة بشكل لا يدع مجالا للشك أنّها أصبحت امتدادا طبيعيا للسياسة الخارجية القطرية ، فالموارد التّي تملكها هذه الدولة في حجمها الصغير و حسن استغلال هذه الموارد سمح لها بأن تكون طرفا فاعلا في القضايا الإقليمية ، و إذا كانت توّجهات سياستها الخارجية تصب في نفس الاتجاه السعودي على العموم إلاّ أنّها في الحقيقة تسعى للعب دور منافس للسعوديين في مجلس التعاون الخليجي ، كما أنّها تبدو أقل معارضة و أكثر حماسة للصعود الإخواني الإسلامي في العالم العربي أكثر من السعودية مركز السلفية و الوهابيين الحامي الداخلي للنظام السعودي و الذّي يمنحه شرعية البقاء … و هنا تتقاطع كل من قطر و تركيا ، فلا شك أنّ تراجع التيارات السلفية في العالم العربي لصالح غريمها الاسلامي الأوّل الإخوان المسلمين سيضعف التأثير السعودي على المنطقة لصالح التأثير التركي- القطري ، ما يهمنا هنا هو أثر هذا التنافس و تقاطع المصالح على ما يحدث في سوريا اليوم فإن التقى الجميع حول ضرورة رحيل نظام الأسد فسوف يختلفون عن طبيعة البديل  وولاءاته و اتجاهاته الخارجية و إن كان الجميع يعمل لقطع الطريق أمام إيران في سوريا فإنّهم سيتنافسون لأجل تشكيل الخارطة السياسية الجديدة التّي سينبثق عنها سقوط النظام السوري القائم ..

   أمّا بخصوص مصر الجديدة بقيادة الإخوان المسلمين فلا شكّ أنّ الموقع الجيوستراتيجي لمصر سيدفعها –بغض النظر عمن يحكمها- إلى لعب دور ما في القضايا الإقليمية العالقة ، و إن كانت القيادة الجديدة ستحاول الحفاظ على شيء من الإستقرار مع محيطها الإقليمي و كذا في علاقتها مع الولايات المتحدة حتّى تتمكن مصر أن تتعافى داخليا قبل أن تجازف بأي دور إقليمي قد يجلب عليها المتاعب في هذه الآونة الحرجة ، فإنّنا لا نستبعد أن يكون لمصر الجديدة دور فعّال في معادلة التنافس الإقليمي ، لذا فإنّ المنطقة ستشهد تغيّر في ميزانها الإستراتيجي ببزوغ خمسة قوى إقليمية مؤثرة لن يساوم أي منها على مكانته المستحقة في خارطة الغد : السعودية ، إسرائيل ، مصر ، إيران و تركيا ، لذا بإمكان مصر الجديدة أن تلعب الدور الذي لعبته بريطانيا في حقبة ما من تاريخ أوروبا لتكون حاملة الميزان الإستراتيجي في المنطقة ، كما بإمكانها أيضا أن ترّجح كفة هذا الطرف أو ذاك بشكل حاسم في حالة ما إذا حسمت خيارها الإستراتيجي مستقبلا ..







4- الرهان السوري ..

 بديلا عن الخاتمة :

   لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم ما يجري داخل كرة البيلياردو السورية دون الاستناد إلى كل ما ورد سابقا ، و مع الانفلات الأمني الذّي يشهده الداخل السوري اليوم و فقدان النظام السوري شرعيته لدى أغلب الأوساط باعتباره المسؤول الأوّل عمّا أوصل سوريا إلى هذا الوضع كونه نظام سياسي مغلق يتغذى على القهر و يعيش على الاستبداد السياسي فقد أصبح الكل يحاول ركوب انتفاضة السوريين كل حسب مصالحه الأمر الذّي أغرق سوريا في الدماء ممّا أعاد إلى الأذهان السؤال الذّي كان يطرحه الجزائريون أثناء العشرية السوداء "من يقتل من ؟" ، إلا أنّ الوضع هناك أكثر تعقيدا و تداخلا ، فلا يكفي تسليط الضوء على القشرة الصلبة لكرة البلياردو و لا على بنية النظام الدولي و تعقيدات المصالح الإقليمية لتكوين فهم متكامل إذ علينا فهم التركيبة الإثنية بكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى واسع –جميع خطوط الاختلاف و الانقسام البشري- حتّى نفهم التركيبة المابين ذاتانية في سوريا… نخشى أن تتحوّل اللعبة في سوريا إلى لعبة صفرية فمكاسب طرف لن تكون إلاّ مغرما للطرف المنافس … لذا فالحلول التوفيقية ستكون صعبة جدا لكنها الحل الوحيد لتلاشي حرب مقبلة لو اشتعلت ستغيّر وجه المنطقة و لا أحد بإمكانه أن يتنبأ بانعكاساتها على بنية النظام الدولي في حالة تداعيها و انفلاتها فقد تفتح ملفات اخرى بين المتنافسين الدوليين و الإقليميين إما تحجيما للأزمة قبل تحولها لحرب ضروس أو ابتزازا و محاولة للحصول على مكاسب من جهة اخرى بين هؤلاء المتنافسين …

   لذا ينبغي على النخبة السورية الجديدة التّي سترسم مشهد الحياة السياسية هناك أن تكون واعية لهذه التحديات و أن تسعى جاهدة لتكون عاملا مستقلا في المعادلة لا عاملا تابعا فيها تتجاذبه التيارات الإقليمية و الدولية لتجعله يصطف هنا أو هناك ، ينبغي على شرفاء سوريا أو يغتنموا محورية دولتهم و مكانتها الإقليمية و محلها من التنافس الدولي القائم ليستثمروا في ذلك لمصلحة دولتهم بشيء من البراغماتية الحميدة بدلا أن يحوّلوا سوريا إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية و تحقيق مصالح دولية لن يكون لسوريا أي نصيب منها على المدى البعيد ..



*جلال خشيب باحث مهتم بالدراسات الدولية و الإستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .



المراجع المعتمدة :

1-  دوغين ألكسندر، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى 2004 ، بيروت-لبنان .

2-  فهمي عبد القادر محمد، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن.

3-   صافي عدنان، الجغرافيا السياسية بين الماضي والحاضر، مركز الكتاب الأكاديمي، الطبعة الأولى أوت 1999، عمان-الأردن.

4-  الذيب محمد محمود إبراهيم، الجغرافية السياسية، منظور معاصر، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة 2005، القاهرة-مصر.

5-    مصباح عامر، الاتجاهات النظرية في تحليل العلاقات الدولية، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الأولى 2006، الجزائر.

6-  نيل فرغيسون ، الغرب و البقية تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي ، ترجمة جلال خشيب ، موقعنا الخاص : http://philopoliticsbridges.yolasite.com

7-  جلال خشيب ، فلسفة الإستراتيجية الأمريكية ، مجلة الفكر الحر الإلكترونية، العدد 110 .

8-  مناظرة بين البروفيسور طارق رمضان و السيد سرجيا بوبوفيتش مدير مركز العمل غير العنيف و الإستراتيجيات التطبيقية في صربيا "كانفاس" . http://www.youtube.com/watch?v=wG5s62aV370&feature=share





9-      Russia in the Islamic World , Sergey Markedonov ,  national interst , June 27, 2012  http://nationalinterest.org/commentary/russia-the-islamic-world-7126